د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
هل هكذا تسقط الأمم مقال بقلم د. راغب السرجاني، يوضح فيه السنن الإلهية في إهلاك الأمم، فما هي؟ ومتى يكون سقوط أمريكا وانهيارها؟
لا شكَّ أن شعور الكثيرين من أبناء العالم -وخاصة المسلمين- بالظلم نتيجة الممارسات الأمريكية الغاشمة هنا وهناك يجعل معظم الناس في انتظارشغوف للحظة التي تسقط فيها أمريكا! ولذا أظهرت نتيجة الاستبيان الذي وضعناه في الأسبوع الماضي على موقعنا بخصوص القيادة العالمية أن العدد الأكبر من المشاركين (47%) يَتَوَقَّعُون تغييرًا جذريًّا لقيادة العالم، بمعنى أنهم يَتَوَقَّعُون انهيارًا لأمريكا وصعود قوة جديدة أخرى لتقود الدنيا..
وأنا أقول لهؤلاء الأكثرية: ما هكذا تسير الأمور!
فليس معنى أنني أتمنى شيئًا أن أَتَوَقَّع حدوثه سريعًا! فالأماني والأحلام شيء، والواقع شيء آخر، والإسلام دينُ الواقعية، فمع إيماننا الكامل بقدرة الله على كل شيء، ومع اعتقادنا الجازم أنه إذا أراد الله شيئًا فإنه يقول له كن فيكون، ومع علمنا أن كل الأمم لا بُدَّ أن تدخل في طور الذبول والأفول، إلا أننا ندرك مع كل ذلك أن لله U سُنَنًا في الأرض لا تتبدَّل ولا تَتَغَيَّر؛ من هذه السنن سنة إهلاك الأمم الظالمة، فإنها -وإن كانت حتمية- إلاَّ أن لها طريقة ثابتة، ومنهجًا واضحًا؛ فالأمم الكبرى لا تسقط هكذا نتيجة أزمة معينة - ولو كانت خطيرة، ولا تهلك لمجرَّد ظهور قوة أخرى إلى جوارها إنما لا بُدَّ من النزول في السُّلَّم بشكل مُتَدَرِّجٍ وطبيعي، ثم بعد النزول المستمرِّ فترة من الزمن يأتي حدث ما قد يكون كبيرًا فيؤدي إلى انزواء الأُمَّة تمامًا عن الساحة وذبولها.
وهذا الكلام لا يعني أن هلاك الأمم يكون بمجرد وقوعها في الظلم والخطأ، إنما السُّنَّة الإلهية تقضي بأن الأُمَّة التي تَظْلِم لا تهلك إلاَّ بعد سنوات طويلة من ظلمها المستمرِّ، وهو ما أُسَمِّيه بسُنَّة "الإمهال".
إن رسولنا الأكرم r يقول: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ"[1]، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]. فهذا الحديث الصحيح يُوَضِّح لنا سُنَّة الإملاء أو "الإمهال".
ولهذا الإملاء حِكَمٌ كثيرة؛ لعلنا سَنُفَصِّلها في المقالات القادمة بإذن الله، ولكن الشاهد من الحديث أن الإهلاك لا يحدث مباشرة بعد الظلم، بل إن المشاهدات التاريخية تقول: إن الإهلاك قد يحدث بعد عشرات السنين -وأحيانًا مئات السنين- بعد تفاقم الظلم!
ويكفي للقارئ أن يسترجع في ذهنه قصة فرعون، عندما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، وعندما علا في الفساد حتى صار يقتل الأطفال الذكور الرُّضَّع، ويُبْقِي النساء على قيد الحياة ليستمهلهم في خدمته وقومه.
ماذا حدث لفرعون بعد هذا الفساد الكبير الذي أصبح مَضْرِبَ المثل لكل طواغيت الأرض؟!
إن الله U أمهل فرعون بضعة عقود بعد هذه الصور الفاحشة من الظلم! فقد وُلِدَ موسى u في زمان الظلم هذا، ولم يحدث الإهلاك إلاَّ بعد أن نشأ موسى وترعرع، ووصل إلى سنِّ الشباب، هاجر إلى مَدْيَنَ عشر سنوات، ثم عاد إلى مصر ونزلت عليه الرسالة، ودخل في مناظرات مع فرعون استمرت عدة سنوات أخرى!
ثم حدث الإهلاك بعد كل هذه المدة الطويلة! وليس هذا مثالاً نادرًا في التاريخ، بل إنه الأصل الذي ينبغي أن نؤمن بثباته.
ولعل مرجع اللبس عند الناس في الفهم، والخطأ في التحليل أنهم ينظرون إلى الأمور بسطحية، فيتابعون حدثًا دون البحث عن جذوره، ويَرَوْنَ نتيجة دون النظر في أسبابها.
وعلى سبيل المثال فإن بعض المسلمين يعتقدون أن دولة فارس أو الروم قد سقطت هكذا فجأة عند ظهور الإسلام، لكن حقيقة الأمر أن القصة ليست كذلك أبدًا!!
لقد بدأت الفتوح الإسلامية في بلاد فارس سنة (12هـ)، وسقطت دولة فارس بكاملها سنة (26هـ)، فظنَّ الناس أن سقوط هذه الدولة العملاقة لم يأخذ إلاَّ أربعة عشر عامًا فقط! لكن التحليل العميق يُثْبِتُ غير هذا!
فقصة هلكة فارس أخذت عدة عشرات -وقد يكون عدة مئات- من السنين، فالمُراجع لتاريخهم سيجد فترة طويلة جدًّا من الظلم والطغيان، واستعباد الشعوب، وسيجد إباحية وفسادًا وَصَلَ إلى حَدِّ المبالغة في القبح، فأَحَلُّوا -من شدَّة شهوانيتهم- زواج المحارم، وكان هذا مُسْتَهْجَنًا في كل بلاد العالم، حتى عند الوثنيين العرب وغيرهم، ومن يُراجع تاريخهم -كذلك- سيجد الطبقية والعنصرية وتقسيم الناس إلى طوائف بينها فجوات هائلة، ناهيك عن عبادة النار من دون الله. ثم ظهرت فيهم شخصية شديدة الانحراف، وكانوا يعتبرونها من الفلاسفة الحكماء، وهذا المنحرف هو مزدك، الذي وُلِدَ في سنة (487م)، أي قبل تَحَرُّك الجيوش الإسلامية لفتح فارس بـ(150) سنة! وهذا الرجل بذر بذور الهلكة التامَّة لدولة فارس، حيث دعا فيها إلى مبدأ الشيوعية! فقال: إن الناس شركاء في كل شيء، ومن ثَمَّ فَهُمْ شركاء -أيضًا- في المال والنساء. وبذلك لم يَعُدْ هناك أيّة حرمة للملكية، ولا أيّة حرمة للنساء، وصار ذلك جزءًا من دينهم، وأصبح القويُّ يدخل على الضعيف يأخذ منه ماله، فلا ينبغي له أن يعترض؛ لأن المال صار أمرًا شائعًا، ويغلبه على نسائه فلا يتكلَّمُ؛ لأن النساء كذلك صارت أمرًا شائعًا، حتى أصبح الوَلَدُ -على الأغلب- لا يَعْرِفُ أباه!
والشاهد أن هذه الأحداث المؤسفة كانت قبل الفتح الإسلامي بـ(150) سنة!
وما قلناه على فارس ينطبق على الروم، فظُلْمُ الرومان -على سبيل المثال- في احتلالهم لمصر استمر أكثر من تسعمائة سنة كاملة حتى حَرَّر الإسلام المصريين.
ونفس الكلام ينطبق حديثًا على الاتحاد السوفيتي السابق، فهو لم يسقط فجأة في سنة (1991م) عندما قرَّر جورباتشوف حَلَّه، ولكني أرى أنه كان يحمل بذور هلكته منذ أن قام في (1917م)؛ لأن المبادئ الشيوعية التي جاء بها -مثل مبادئ مزدك الفارسي- كانت مضادَّة للفطرة، ولكنه مع ذلك استمرَّ في الوجود (73) سنة؛ وذلك لفرط قُوَّتِهِ، ولاعتبارات أخرى كثيرة، فهو لم يسقط فجأة، إنما تَوَقَّعُ المحللون الفاهمون سقوطه قبل هذا السقوط بسنوات طويلة.
وأمريكا مثل غيرها من الأمم لا تخرج عن هذه السُّنَّة، وهي الآن في قُوَّة مفرطة، وليس من المُتَوَقَّع -في رؤيتي- أن تسقط حالاً لحدوث أزمة أو أزمات، فأمريكا الآن تُعْتَبَرُ قاطرة لاقتصاد العالم بأكمله، وسقوط أمريكا المفاجئ يعني تَوَقُّفًا لحركة العالم كله اقتصاديًّا وسياسيًّا، ولعلَّ القارئ يُفْجَعُ عندما يعلم أن شركات العالم تُسَوِّقُ أكثر من (70%) من إنتاجها في السوق الأمريكية! ومعنى هذا أن سقوط أمريكا يعني إفلاس شركات العالم الكبرى في كل مكان، ولعلَّ القارئ يُفجع -أيضًا- إذا عَلِمَ أن أمريكا وحدها تنتج أكثر من (30%) من إنتاج العالم، وأن هذا الإنتاج في معظمه يبلغ القمة في المستوى التقني والتكنولوجي، وحتى يكون كلامنا بالأرقام فلنرجع إلى الفجوة بين الناتج القومي الإجمالي لأمريكا -والذي يضعها في الصدارة العالمية- والناتج القومي للدول التي تأتي في المرتبة التالية لها اقتصاديًّا..
إجمالي الناتج القومي الأمريكي للسنة المالية (2007/ 2008م) يزيد على 12.4 تريليون[2] دولار، وتأتي اليابان في المرتبة الثانية بفارق مهول؛ حيث يبلغ إجمالي إنتاجها 4.5 تريليون دولار، ثم ألمانيا في المرتبة الثالثة بـ2.8 تريليون دولار، والرابعة الصين بـ2.2 تريليون دولار، ثم الخامسة إنجلترا بـ2.2 تريليون دولار كالصين تقريبًا، ثم فرنسا في المرتبة السادسة بـ2.1 تريليون دولار.
إنني لا أقول هذا الكلام للتعبير عن انبهاري غير المُقَنَّنِ بالقُوَّة الأمريكية، ولا أقول هذا الكلام لأَبُثَّ الإحباط في نفوس المسلمين، ولكني أقوله لأَرُدَّ المسلمين من ميادين الأحلام والمثاليات إلى ساحات الجِدِّ والواقعية.
إن سقوط فارس أو الروم صَاحَبَه ظهور قوة إيمانية هائلة في الدولة الإسلامية الناشئة، فَتَسَلَّمَ المسلمون الراية بشكل طبيعي، وليس مفاجئًا أن الله U -الذي يمتلك المقادير كلها، ويُصَرِّفُ الكون بحكمته- رأى أن الدولتين الفارسية والرومانية قد أُمْهِلَتَا بما فيه الكفاية، وأن هذه الطائفة المسلمة الجديرة بالنصر قد صلح قلبها وعملها، فنقل الراية من الظالمين إلى المصلحين بـ(كُنْ فيكون)، وكل ذلك عن طريق سُنن ثابتة ومناهج واضحة، دون مفاجئات غير متوقَّعة، وهل هلاك الدولة الظالمة -مهما كانت عملاقة- يُعَدُّ مفاجأة؟! وهل نصر الله للقلة المؤمنة يُعَدُّ مفاجأة لنا؟!
وإنني بعد هذا التحليل أرى أن المسلمين يجب أن يَقِفُوا مع الأحداث المعاصرة، ويعرضوا على أنفسهم أسئلة كثيرة مهمَّة؛ منها:
- هل نتمنى من قلوبنا هلكة أمريكا؟ أم عندنا رغبات أخرى؟
- هل نتوقع أن نتسلم راية قيادة العالم بظروفنا الحالية؟
- هل الغرور الأمريكي في المجال العسكري والسياسي فقط؟ وهل هذا الغرور كافٍ للسقوط؟
- هل يمتلك الاتحاد الأوربي مقومات الاستمرارية؟
- هل تعتقد أن الصين أفضل لقيادة العالم من أمريكا؟
- هل الأزمة المالية العالمية الآن سَتُوقِعُ الدول الكبرى في شَرِّ أعمالها، وتترك الدول النامية دون تدمير؟
- هل في الإسلام مَخْرَجٌ لهذه الأزمة المالية العالمية؟
لعلَّ الإجابة على هذه الأسئلة وأشباهها يفتح للقارئ المسلم آفاقًا أخرى أرحب من التفكير والتحليل، فيرى الأحداث على حقيقتها، ويُدْرِكُ بواطن الأمور، ويَتَعَلَّمُ كيف يقرأ ما بين السطور، ولعلَّ الإجابة على هذه الأسئلة -بإذن الله- ستكون موضوع مقالاتنا القادمة، ونسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
د. راغب السرجاني
التعليقات
إرسال تعليقك